لا يكاد المرء وهو يتصفح كتاب حياة الرجل أن يصدِّق ذلك الحجم المهول من الإنجازات والنجاحات التي سطرتها يد الإبداع والمثابرة في مسيرته العلمية والعملية، فشركته التي قام بتأسيسها من الصفر عام 1976م في جراج منزله قدرت قيمة أصولها -بحسب بورصة نيويورك لعام 2011- بـ350 مليار دولار لتصبح بذلك أكبر شركة في العالم!!
عند رحيله في أكتوبر 2011 قال عنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما مُعَزِّيًا: نشعر بالحزن الكبير لرحيله، لأنه يعتبر من أعظم المبدعين الأمريكيين ولديه جرأة وموهبة يمكن لها أن تغير العالم بأجمعه، ورثاه بيل جيتس مؤسِّس شركة مايكروسوفت بقوله: لقد قابلته منذ 30 عامًا تقريبًا وكنا زملاء ومتنافسين وأصدقاء، من النادر أن يرى العالم شخصًا يتأثر به كتأثيره، وسيستمر هذا التأثير لأجيال عديدة قادمة.
ستيف جوبز الذي لم يقدِّم لعالم تكنولوجيا المعلومات تشييده لصرح شركة آبل ماكينتوش فحسب، والتي كانت من أوائل الشركات المصنعة للحواسب الشخصية في العالم، وتكتسح منتجاتها كالـ آي فون والـ آي باد الأسواق العالمية اليوم، ففي عام 1986 شغل جوبز منصب الرئيس التنفيذي لشركة بيكسار للرسوم المتحركة المولّدة عن طريق الحاسوب، بعد أن إشتراها بقيمة عشرة ملايين دولار أمريكي، لتتمكن الشركة في عام 1995 أن تنتج فيلمها الطويل الأول: حكاية لعبة 1 محققة بذلك بداية لقصة نجاح جديدة في حياة ستيف، وفي سنة 2006 قامت شركة والت ديزني بشراء بيكسار بصفقة قيمتها 7.2 مليار دولار، لينتقل بعد ذلك ستيف ليكون عضوًا في مجلس إدارة ديزني.
ولد ستيف جوبز في مدينة سان فرانسيسكو عام 1955 من أبوين غير متزوجين هما: عبد الفتاح الجندلي السوري الأصل، وجوان شيبل، وقد عرضاه للتبنِّي بعد أسبوع من إنجابه بسبب رفض عائلة جوان زواج إبنتها برجل غير كاثوليكي، فتَبَنَّاه زوجان من كاليفورنيا هما بول وكلارا جوبز.
لم يذكر ستيف في حياته إسم عبد الفتاح إلا عندما كان يضطر لإستخدام صفة الأب البيولوجي!، ولم يلتقيَا في حياتهما قط رغم أنَّ والده أبدى ندمه على عرض إبنه الرضيع للتبنِّي، وقال جندلي مرة لصحيفة ذي صن إنَّ كبرياءه العربي السوري يمنعه من المبادرة بنفسه للاتصال به، وأضاف لست مستعدًّا حتى إذا كان أحدنا على فراش الموت أن ألتقط الهاتف للاتصال به، إنَّ على ستيف نفسه أن يفعل ذلك لأنَّ كبريائي السوري لا يريده أن يظن ذات يوم بأنني طامع في ثروته، فأنا لا أريدها وأملك مالي الخاص، ما لا أملكه هو ابني، وهذا يحزنني، وقال أيضًا: إنَّه يعيش على أمل أن يتصل ابنه به قبل فوات الأوان. وأضاف: إن تناول فنجان قهوة، ولو لمرة واحدة معه، سيجعلني سعيدًا جدًا، لكن عبد الفتاح مات ولم يلتقِّ بإبنه.
إنَّها قصة الحضارة الغربية المادية في نموذج مصغَّر، تلك الحضارة التي منحت بماديتها المفرطة رجلاً عبقريًا كستيف الفرصة ليصبح إمبراطورًا للعصر في عالم الإتصالات، وحرمته من أكثر حاجة ماسة يطلبها الإنسان منذ اللحظة التي تبصر فيها عيناه النور، حرمته من العيش في كنف أمِّه وأبيه الحقيقيين، حرمته من رعاية وعاطفة لا تعوضهما كنوز الأرض مجتمعة، حرمته من جوٍّ أسري نظيف وطاهر، حرمته من حق معرفة أصل نسبه ومن أين وكيف جاء إلى هذه الدنيا.
إنَّها الحضارة التي وصفها الشاعر الهندي طاغور مخاطبًا أحد مفكري الغرب قائلاً: صحيح أنكم استطعتم أن تحلِّقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك، ولكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كالإنسان، وليت الذين يتَّسابقون منا اليوم وراء تقليد الغرب وإقتباس الغثّ منه دون السمين، آخذين منه تقديس المادة وإعلاء شأن الشهوة على حساب إنسانية البشر وأرواحهم، ليتَ البوصلة تنقلب عندهم، ليدفعوا بشعوبهم للتسابق مع الغرب في تفوقه العلمي والتقني، بدلاً من الركض بلهفة خلف سقوطه وإنحلاله الأخلاقي والاجتماعي.
الكاتب: أسامة يوسف.
المصدر: موقع نوافذ.